هل المرجع الديني معصوم؟!

من التهم التي يوجهها إلينا بعض المخالفين أننا نتبع المراجع في كل شيء، و كأنهم معصومون، فصار عدد المعصومين أكثر من ١٤ معصوماً، وهذا من المبالغة والغلو في العلماء، فما تعليقكم على ذلك؟

الجواب من سماحة الشيخ حيدر السندي:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين، وبعد ..

الأمر الأول: هو أن المتعلم في الحوزات العلمية مهما بلغ ما بلغ في العلم لا يصل إلى العصمة، ولا إلى الأمن المطلق من الاشتباه و الخطأ، و أدل دليل على ذلك اختلاف المراجع فيما بينهم في الأحكام، و تحديد المتعلقات، و الموضوعات الكلية، والموضوعات الخارجية، و كيفية إدارة شؤون المرجعية الدينية،  وهذا أمر غني عن البيان، فدعوى أن الشيعة اعتقدوا بعصمة العلماء بعد عدم اعتقادهم دعوى عارية عن الصحة، فالمرجع متخصص في الفقه، و ينبغي أن يكون - كما ينبغي لغيره -  عالماً بزمانه، حتى لا تهجم عليه اللوابس، و بقدر ما تحصّل من علم  و حكمة  وفطنة يكون قادراً على تجنب الأخطاء  الفكرية، والعملية .

و قد كان الشهيد والمفكر الإسلامي الكبير محمد باقر الصدر (رحمه الله) في آخر بحوثه ينطلق من عدم العصمة  في بيان دور الفقهاء، و  يؤكد على أن للفقيه ولاية الإشراف على مسيرة الأمة من حيث هو خبير في معارف الدين، فيكون قائماً مقام النبي (صلى الله عليه و آله) و الإمام (عليه السلام) في ذلك،  ببيان الحكم الصحيح، وبيان المسار القويم، فيما إذا انحرفت المسيرة ووقعت في المحظور الشرعي، ولكن ليس له  الخلافة و ولاية التنفيذ  والتطبيق الإداري والحكم مباشرة، بل للأمة بمجموعها الولاية على نفسها  في ذلك، وهذا ما يعني انفكاك ولاية الاشراف عن الخلافة و التنفيذ  في زمن غيبة المعصوم (عليه السلام) فقد قال (رحمه الله):  «وضع الله سبحانه وتعالى إلى جانب خطّ الخلافة ـ خلافة الانسان على الارض ـ خطّ الشهادة الذي يمثّل التدخّل الرّباني من أجل صيانة الانسان الخليفة من الإنحراف و توجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة» خلافة الانسان و شهادة الانبياء: 20.

      وقال : «و يتميز في هذه المرحلة - مرحلة غيبة الامام (عليه السلام) - خط الشهادة عن خط الخلافة بعد أن كانا مندمجين في شخص النبي أوالامام وذلك لأن هذا الاندماج لايصبح إسلامياً إلاّ في حالة وجود فرد معصوم قادر على أن يمارس الخطّين معاً و حين تخلو الساحة من فرد معصوم فلا يمكن حصر الخطين في فرد واحد.

فخط الشهادة يتحمل مسؤولية المرجع على أساس أن المرجعية امتداد للنبوة و الإمامة على هذا الخط.

وهذه المسؤولية تفرض:

أولا: أن يحافظ المرجع على الشريعة والرسالة و يردّ عنها كيد الكائدين و شبهات الكافرين و الفاسقين.

ثانياً: أن يكون هذا المرجع في بيان أحكام الاسلام و مفاهيمه و يكون اجتهاده هو المقياس الموضوعي للامة من الناحية الاسلامية و تمتدّ مرجعيته في هذا المجال الى تحديد الطابع الاسلامى لا للعناصر الثابتة من التشريع في المجتمع الاسلامي فقط، بل للعناصر المتحركة الزمنية أيضاً باعتباره هو الممثل الأعلى للايديو لوجيةِ الاسلامية.

ثالثاً: أن يكون مشرفاً و رقيباً على الامة، و تفرض هذه الرقابة عليه أن يتدخل لإعادة الامور إلى نصابها إذا انحرفت عن طريقها الصحيح إسلامياً، و تزعزعت المبادئ العامة لخلافة الانسان على الارض… واما خط الخلافة الذي كان الشهيد المعصوم يمارسه فـ… إذا حررّت الامة نفسها فخط الخلافة ينتقل إليها فهي التي تمارس القيادة السياسية و الاجتماعية في الامة بتطبيق أحكام الله و على أساس الركائز المتقدمة للاستخلاف الربانى »خلافة الانسان 51 ـ 53.

وقال : «و اما إذا حرّرت الامة نفسها فخط الخلافة ينتقل إليها فهي التي تمارس القيادة السياسية و الاجتماعية في الامة بتطبيق أحكام الله و على أساس الركائز المتقدمة للاستخلاف الرّباني»خلافة الانسان: 53.

وقال : «إن السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية قد اسندت ممارستها إلى الأمة، فالأمة هي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين بالطريقة التي يعينها الدستور. و هذا الحق حق استخلاف و رعاية مستمد من مصدر السلطات الحقيقي و هو الله تعالى» لمحة فقهيه: 23.

وهذه النظرة الدقيقة تتوافق مع ما يحكم به العقل من ترجيح  تفعيل أكبر عقول الأمة، و استثمار جميع مواهبهم وقدراتهم الروحية  والعلمية في رسم مسيرة الأمة العامة، وعدم جعل ذلك بيد شخص واحد غير معصوم، فإن أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله، و أكثرهم قرباً إلى الواقع من ضم أكبر عدد من الخبرات إلى خبرته، و من هنا تنبثق فكرة أن الحكم في زمن الغيبة ينبغي أن يكون مدنيّاً، بمعنى أن الأمة هي التي تحدد شكل الإدارة، ولكن في ظل التعاليم الإسلامية التي تقود الحياة و تحكم كل فعل وترك ، و اشراف المتخصصين في التعاليم من موقعهم التخصصي، وهم  قد لا يمتازون في جهات تطبيقية كثيرة، بل قد يمتاز عليهم غيرهم فيها، فيكون  هو الأولى في التصدي للتطبيق مع إشراف المتخصص في الفقه من زاوية تخصصه، وليس المقصود من الحكم المدني تطبيق النظام العلماني، كما توهم البعض، فنسب بعض المراجع إلى العلمانية، و إنما كون تحديد شكل الإدارة بيد الأمة لا بيد الفرد غير المعصوم، وبعض الفقهاء المؤمنين بولاية الفقيه  يطرح ذلك في طول فقد  الفقيه  الجامع للشرائط و القادر على القيام بالمهام التطبيقية، ومن لا يملك أدوات الاستنباط عليه أن يقلد أو يحتاط في مثل هذه المسألة الفقهية .

وفي تصوري إن علاقة الفقيه بالأمة، وعلاقة الأمة به، و تحديد دور كل طرف بالدقة من الناحية الشرعية مع تقديم الأصلح في كل موقع ؛ من الأمور المهمة جدّاً، و التي هي بحاجة إلى بحث تأصيلي،  في ظل ملاحظة ما يحكم به العقل و ما عليه السيرة العقلاء  في كيفية تحصيل الأغراض الشرعية العليا في زمن الغيبة، و تحديد ما هو أقرب إلى رضا مولانا صاحب (عليه السلام)، وجعل ذلك قرينة حافة بالنصوص التي يستدل بها الفقهاء في بحث ولاية الفقيه، و هذا بحث عميق دقيق، وقد تعرضنا لشيء منه بنحو مختصر هنا بمقدار ما تقتضيه المناسبة.

الأمر الثاني: لم يقل أحد من الشيعة بوجوب اتباع  العالم في كل شيء، كما يتبع المعصوم (عليه السلام)، و إنما يرى الشيعة أن للفقيه أن يفتي،  و يجوز لغيره أن يعمل بفتواه، وله منصب القضاء، و  اختلف في ثبوت الولاية له، فقيل بعدم الثبوت و قيل بالثبوت، ومن قال بالثبوت اختلف في سعة الولاية  وحدودها، وفي غير مورد ولايته هو كغيره من الناس، ليس له حق الطاعة، ولا تقدم له على غيره إلّا بمقدار ما  يملك من خبرة  يمكن أن تفيد الوثوق للمؤمن أو ترفع اللوم عنه في مقام  العمل، فكما  يركن إلى قول الطبيب  في الأمور الطبية؛  لأنه يفيد الاطمئنان أو الطريق الأقرب إلى السلامة مع عدم الاطمئنان، فكذلك الفقيه في   الشؤون التي لا ترجع إلى دائرة التقليد والولاية، والقضاء، كتحديد كيفية العمل الاجتماعي، و تربية الأولاد، و العمل التثقيفي، و نوعية الخطاب العام، و اتخاذ المواقف من الأشخاص، وغير ذلك، فإن الرجوع إلى الفقيه فيها لتحصيل البصيرة من دون تعيين شرعي، إذ يمكن الرجوع لغيره من المتخصصين - أيضاً - بعد أخذ الحكم الفقهي،  وتحديد الوظيفة الشرعية منه.

كما أن على الفقيه نفسه أن يرجع إلى أهل التخصص في مجال العلوم الاجتماعية، و الفلكية، والفلسفية، و يفيد من أهل الدراية، و الفطنة، و الخبرة، إذا لم يكن متخصصاً فيها،   فمن هو أقل ثقافة وخبرة في مجال ما عليه أن يعتمد على من هو أكثر منه ثقافة وخبرة، وعلى هذا فمن اللازم أن يكون الفقيه خبيراً في المجالات التي يتوقف عليها حسن توجيهه أو  نصيحته ووصيته للناس، أو يكون معتمداً على أهل الخبرة، ومستخلصاً توجيهاً بعد الوقوف على افاداتهم النافعة في رسم صورة واضحة يمكن الاستناد إليها في مقام التوجيه والنصح، وقد ينصح الفقيه بشيء، و ينصح فقيه آخر بخلافه، وهذا يعتمد على مقدمات قراءة كل واحد  للواقع الموضوعي، و نظرته إلى الموقف الشرعي .

وقد شاهدنا اختلاف  تشخيص المراجع، و اختلاف أتباعهم في كثير من المجالات، و على عامة الناس أن يجتهدوا في معرفة سبب اختلاف المواقف في غير مورد التقليد، ولزوم الرجوع التعبدي ؛  لتكون عندهم قناعة واضحة  أو التوقف مع التماس العذر للمختلفين، فلو شخّص مرجع اتباع الخطاب الوحدوي العام حتى داخل المذهب، و آخر مواجهة المتلبسين بالعمائم المزيفة علناً و بلا هوادة، فعلى عامة الناس في مقام تحديد وظيفتهم دراسة المسألة لتحصيل الوثوق بصوابية أحد الموقفين، ثم العمل على وفق النتيجة المتحصلة، ومع عدم إمكان تحصيل الوثوق يحسن التوقف، و الظن بكل طرف خيراً .

وما نعلمه من حال جملة من المراجع هو عنايتهم الكبيرة بمعرفة كلام أهل الخبرة والتخصص في جميع ميادين المعرفة التي لها دخل في قراءة المشهد الاجتماعي قراءة واعية، ثم تكييف الخطاب بالنحو المناسب للمرحلة، و كثير من التجارب كانت ناجحة و بدرجة امتياز،  كما أن العلماء فيما بينهم يتفاوتون في القابليات والقدرات، وقد يكون دور بعضهم أكثر قرباً إلى الواقع، وعلى كل حال  لا نغفل دور مولانا صاحب العصر (عليه السلام)، فهو الدور الأكبر في كل خير وثبات وبصيرة، وهو الموجه لمسيرة الأمة العامة من خلال وسائله في زمن الغيبة، فهو وإن غاب إلا أنه كالشمس خلف السحاب.

الأمر الثالث: في تقديري من منن الله علينا تعدد العلماء، و اختلافهم في التشخيص، وتنوع أدوار الشيعة و الاتباع، وذلك لترتب فوائد متعددة، ومنها:

١- إن حصر الشيعة جميعاً في إتباع واحد مع عدم عصمته قد يؤدي إلى وقوع الشيعة في خطأ كبير بسبب اشتباه المتبَع الواحد، وذلك فيما إذا شخّص وظيفة للأمة في غير محلها.

٢-   تعددت التشخيصات الموجة يوجب تكامل الأدور، و تطور التجارب بالاستفادة من بعضها البعض، فقد يكون لواقعة واحدة جهات متعددة، و يختلف التفات العلماء من حيث الكم والكيف إلى هذه الجهات، فيكون عمل الجميع مساهماً في الالتفات إلى جميع الجهات، ولعل من أوضح الأمثلة الاختلاف في أولويات بناء الطالب من حيث العلوم والمعارف اللازمة و الاطلاع على التحديات الفكرية المعاصرة، و لزوم التصدي التثقيفي العام بأدوات حديثة تواكب الحاجات المستجدة و بأدوات متجددة. 

٣- عدم تأطير الشيعة تحت إطار واحد يوجب أن يحكم عليهم مخالفوهم  بحكم واحد، وهذا ما نشاهده في عدة ممارسات،  ووقائع، ومواقف اختلاف فيها المراجع (أيدهم الله) .

ولعل من أوضح أمثلة ذلك الاختلاف في ممارسات الشعائر، و ولاية الفقيه وكون الحكم بيده، و الحكم على من أنكر الإمامة، و كيفية إدارة شؤون المرجعية، و معايير إختيار الجهاز المسؤول عن التطبيق.

ومن هنا لا مشكلة فيما إذا اختلفت قناعات الأمة في تشخيصات العلماء التطبيقية، وسلك كل فريق سبيلاً يختلف عن سبيل الآخر، فإن سبل الخير تتعدد، وتقود بأجمعها إلى صراط مستقيم واحد، وما نرجوه هو عناية مولانا صاحب العصر (عليه السلام) بجعل كل الاختلافات ذات أثر في القرب من رضا الله (تبارك وتعالى).