ألم ذلك الحسين

ليسَ مداديَ ممن سبرَ غور التأريخ، ولا يعرف محبرةً غير التي يغمسها ببراءته، مهتديًا طريقه على سجيته، مترجلا بين السطورِ على فطرته، باحثًا عن معناهُ كي يحشو به جوفَ لفظهِ، باحثًا هنا وهناك، مُقلِّبًا بصره بين السطور، عن إصبعٍ مبتور ؛ كي يحكي له سمفونية الإنتصار تلكَ التي رتلها الحسين في (الفجر، وليالٍ عشر)، راح مدادي متأبّطًا حبرهُ ليجلب من ذلكَ الكهفِ جَعبتهُ، علّ بعض السطور المخبوءة بين دفتي التاريخ تخبره عن ذلك الحسين، و عن أحجية الماء ومصدره الحسين، فعجبًا كيف عطشَ الحسين ؟!

للصدى فحيحٌ مهولٌ، يُفزِعُ كلَّ سؤول، اقتربَ المداد من بئر معطلةٍ وقصرٍ مشيد، متسائلًا :

- أين رحل ذوي القصور ؟! أين ذلك الذي قال ملكنا لن يبور؟! أين الذي قال:

ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الاسل

لأهلوا واستهلوا فرحًا * ثم قالوا يا يزيد لا تُشل

 قد قتلنا القرم من ساداتهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل

ماذا فعلت بهم يا حسين حتى جعلتَ الماء لا يصلُ إليهم وهو في أيديهم، حقا وعدُ اللهِ مفعولًا حين قال :(وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون )

كانت هنالك فجوة في ذلك الكهف تناديني، فرحتُ حاملا فانوسي خشية ظلمته، فوضعت فانوسيَ وجلستُ على وصيدِهِ، اسمعُ أنينًا قد ملأ صيوانَ أُذُنيَّ، صدًى لقطراتٍ متساقطةٍ كأوراقِ الخريف كأنّها تطرّ الأرض ؛ لتتوسَّدَ ضريحَها الذي آلت أن يكونَ بين التراب، فأخذتُ اختلسُ النظراتِ للولوجِ في الأعماق، فشقّ عينيَّ نورٌ من فجوة الكهفِ، آه، ماذا يفعلُ هنا، ألم ذلك الحسين...

اقتربتُ منه، سيدي ماذا تفعلُ هنا؟ كيف عقروك؟ مَنْ لقطيعِ ناقةِ صالح؟! مَنْ لأيوبَ فقد اندملتْ قدماهُ وما زال يصبر؟! ردَّ عليّ بدمعه المحمر، ترجّل صوبهم فلا ناصر لي ولا معين ولا سفير..

فقلتُ: و ماذا تريد مني أن أفعله ؟! فقال: عليكَ اللحاقُ ببُنيتي المدلَّلَة..

- و من هي ففواطمُكَ كُثُر، و عيالكَ في الأسر، والحزن في حلقومهم مُرّ ...

- إيهٍ على بنيتي السبية، ألم تعرفوا رُقيّة، فالشوقُ أضناها، والحرُّ سمَّرَ وجنيتها الوضّاءتينِ، لهفي على تلكَ المُقلتينِ، يا بسمتي الموؤدةُ وقتَ الصباح، كيف سقوكَ الماءَ القراح؟! أخبروا أم أبيها أنّني سوفَ آتيها، وستكونُ راحتيَّ بينَ راحتيها...

و مداديَ يكتب وصيتَهُ، والحبر قد لاحت حُمْرتُهُ، وا لهفتي على الحسين...

حدّقَ بي ثم قال، انتظر لم ينتهِ المقال، هلّا أخبرتم الطُهْرَ زينبَ أنني معها حين الريح بها تميل، و تارةً أُسعفُها بدمعي حين نوحُها يُطيل، قل لها لقد سمعتُها حين نادت وامحمدا، فبعثت لها فرسي الميمونَ كي ينادي ب(الظليمة الظليمة من أمة قتلت ابن بنت نبيها)، فكان صهيلُه أولَ رسالةٍ لها على أن القوم ذبحوني...

قل لها كنتُ أركضُ مع أطفالي حين فرّوا كالطيور، كنتُ أنعى كل طفلٍ حين طأته سنابك الخيل على الظهور، كنت أرى الشيبَ والشبيبة، وهي تُسحقُ بلا ريبة، وقد تعانقت الأضلعُ ونزلت الأدمعُ، ونعى كل حبيبٍ حبيبه...

طأطأتُ رأسيَ الخجول من رأسه، كيف لي رأسٌ مشرأبُ العنق على جسدي، وهو رأسٌ بلا جسد، و هيبتهُ ليس لها حد، كيف يكون لي إصبعٌ أشيرُ به عند الكلام، و كلامي قد تسمَّر في فمي، حين نادى الخيول بإصبعٍ مبتورٍ أن لا تهجمي، ولكنها كانت عن فقهِ عربيتِهِ أعجمية، يا ويلكِ ماذا فعلتِ أيتها الأعوجية؟!

رأيتهُ قد أومئ بإصبعهِ المبتورِ نحو الخيام... ثم تنهّدَ من سطوة اللئام ..

-سيدي ماذا دهاك؟! ما الذي هناك؟!

- آهٍ على الخيام، حرقوها، وبرزت منها ربّات الخدور، رقية تبحث عني بين تلك الخيام، قد قلت لها سأعود، وسكينة ما زالت تلهج بعمها أبي الفضل، قل لها لن يعود، فخسوف قمرها قد خلف بعده ظواهر كونية وتغيرات، وجفنُها من بعدهِ ما بات، لم تعد من بعده أربع فصول، بات فصلًا واحدًا خريفيّا، قل لها فلتقف على الطلول، كما قال قيس عند طلول ليلى: قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ... فقد حرقت طلول ليلى قلبَ قيسَ، و هل بعد حرق خيامنا من منزلِ؟!...

سيدي، يرفع المنتصرون إصبعيهم علامةً لنصرهم، وأنتَ يا سيدي ترفعُ إصبعًا مبتورًا إيذانًا بأنكَ هزمتَ أمية بأصبعك المبتور و رأسكَ السامقُ فوقَ الرماح...

فالسلامُ على الحسين، وعلى علي بن الحسين، و على أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين...