في القصيدة وغيرها.. كربلاء مشهد درامي بلا بعدها الفكري والفلسفي

إن أعظم معطيات الطف هي انها جعلت هناك إسلاما جوهريا يسمو في نقائه وأصالته وقد حصنته ـ على مدى الزمن ـ كربلاء من أي عبث، وآخر ظاهر ما برحت أيادي العابثين تشكله على الهيئة التي تقتضيها مصالحهم واغراضهم، وكمثال فإن عالم الآثار الانجليزي وليام لوفتس حين يقول "لقد قدم الحسين بن علي أبلغ شهادة في تاريخ الإنسانية، وارتفع بمأساته إلى مستوى البطولة الفذة". وأشباهه من أفذاذ الشخصيات الفكرية في العالم، من الذين تعرفوا على الامام الحسين عليه السلام، لا يمكن بأي حال من الاحوال أن يصدقوا ان الاسلام، الذي سعت قوى الشر اليوم ان تصوره في نموذج الجهاد السلفي "داعش" بكل ما في ذلك النموذج من انحطاط انساني واخلاقي، هو نفسه الاسلام الذي استشهد في سبيله الحسين عليه السلام.

من هذه النقطة المفصلية في عملية الحفاظ على رسالة خاتم الانبياء صلى الله عليه وآله، انطلق ائمة اهل البيت عليهم السلام في جهودهم المقدسة في الحث على تنشيط الشعائر الحسينية وديمومتها، بعد أن ارادوا لهذه الشعائر ان تكون قناة اعلامية تنهض بأعباء التذكير والتخليد لواقعة كربلاء بكل محتواها المأساوي وبعدها الفكري الفذ، لتظل الشعائر الخط الملتهب الذي يمتد بموازاة خط الزمن ويؤجج في الاجيال قول الامام الحسين عليه السلام "انما خرجت طلبا للاصلاح في أمة جدي" التي رسم من خلاله فلسفة ثورته.. أرادوا ع الشعائر قناة اعلامية تحفظ للدم الحسيني الزكي تألقه الفذ فتحفظ الاسلام الحق الذي أهرق في سبيله ذلك الدم.

وعليه فإن الخطاب الاعلامي الذي على الشعائر التزامه، لابد فيه من تلازم جانب المأساة وجانب الفكر الاسلامي معا، حيث أن معركة الحسين عليه السلام ويزيد هي معركة القيم الاسلامية التي جسدها الامام الحسين عليه السلام وجسده النبي الامين صلى الله عليه وآله والقيم الجاهلية التي عمل يزيد وابوه على انبعاثها من جديد في زي اسلامي. بل ان على الخطاب الاعلامي للشعائر ان يظهر القيم الاسلامية من خلال عرض المأساة، تماما كما أراد الحسين عليه السلام وخطط له في ثورته المقدسة، فجعل الاطياف المأساوية التي ضجت بها ملحمة عاشوراء من ذبح وعطش وسبي النساء وصولا الى نحر الطفل الرضيع.. جعلها الامام الحسين  مفردات صارخة تُفهم العالم كيف داس الامويون قيم الانسانية التي جسدها الإسلام.

إن مأساة كربلاء بلا بعدها الفكري والفلسفي لن تعدو أكثر من مشهد درامي يمكن ان يتكرر، او هو قد تكرر بالفعل، في شخوص اخرين على مر التاريخ، ولكنها بفلسفتها الاساس "الاصلاح" نموذج فريد يعنى بعموم المجتمع البشري بكل شرائحه وأطيافه، أي أن الخطاب الحسيني موجه الى أطياف الناس كافة لان المقصود هنا بالإصلاح هو اصلاح الانسان لإنسانيته.

وهذا ما يجعلنا ننتهي الى حقيقة هامة وهي أن كل الناهضين بالشعائر الحسينية هم اعلاميون في قناة الطف، يجسدون المأساة ومنها ينطلقون الى المعاني السامية الكامنة فيها، وهذه الحقيقة توصلنا الى سؤال هام لا يمكن اغفاله وهو أن "هل كل الناهضين بالشعائر الحسينية بمستوى الخطاب الحسيني ومطالبه العميقة؟"      

إن ما ذكرناه من كون الخطاب الحسيني موجه لكل شرائح المجتمع يجعلنا ننحو بالجواب الى ضرورة جعل الخطاب على مستويات عدة، فالعالم المفكر يتناول المأساة وما هو كامن فيها من عمق فكري، محولا إياها الى طرح فكري عال وموجه الى النخبة المثقفة، والخطيب الذي يضطلع بنفس المهمة ولكن بمستوى اقل حتى يصل الدور الى القصيدة الحسينية، الذي لن نجانب الحقيقة اذا ما قلنا ان اذاعتها عن طريق الرادود، هي الفعالية الاكثر التحاما بالعامة. مما يعني ان على صاحب القصيدة مسؤولية كبرى في إيصال البعد الفكري والقيمي لعموم الناس بالمستوى الذي يفهمونه وبالأسلوب المحبب الى نفوسهم، وكل ماعدا هذا الدور من تعبيرات غير لائقة او تصويرات تخدش مقامات الحسين عليه السلام ومن كان حوله في الطف من نماذج مقدسة او معان فارغة او غير ذلك.. كلها إخلال بالمسؤولية التي توجبها طبيعة الشعائر الحسينية

إن كل فعاليات الشعائر الحسينية يجب ان تكون ادوات لبث الثقافة والتوعية، وعلى القصيدة الحسينية على الخصوص أن تكون نشيدا ملحميا يلهب النفوس ويبث فيهم القيم العاطرة التي عبرت عنها كربلاء.. أن تعدل القصيدة الحسينية واقع المجتمع الى الصورة الصحيحة لا أن تنتج القصيدة وقراءتها من واقع المجتمع القاصر والمعبأ بما هو سلبي لتشكل الشعيرة بعد ذلك وفق ذلك الواقع.