الطفل "أرض خالية" ماذا نزرعها؟

يتصور الكثير من الآباء والأمهات أن مسألة تربية الأطفال من المسائل الميسورة التي بإمكان أي شخص يرتبط مع الطفل برابطة الأبوة أو الأمومة، أن يؤديها حسب المطلوب، ووفق الآليات التي تؤهل ذلك الطفل إلى أن يكون فرداً مساهماً في بناء مجتمع متحضر، غير أنهم ـ أعني الآباء والأمهات ـ لابد أن يلتفتوا الى نقطة مهمة، وهي أنهم أحد أطراف المجموعة الثلاثية التي تساهم في تنشئة وبناء شخصية الطفل سلباً أو إيجاباً، وهذا الثلاثي يتكون من (الأسرة ، المدرسة ، المجتمع) .

عندما يبصر الطفل النور فإن أولى محطات التلقي التي سيمر بها هي \العائلة\ التي يرتبط معها برابطة الدم، ومن هنا سوف تفرز الصورة النمطية أو القالب النمطي لتلك العائلة اللبنة الأولى لشخصية الطفل، فعندما يتدرج نموه يكون مشدوداً ومتعلقاً بأمه كثيراً، حيث أن ذلك التعلق أمر فطري يميل إليه التكوين الإنساني، ومن نافذة الأم يرى العالم.

ثم يدخل الأب عالم ذلك المخلوق الوافد حديثاً إلى معترك هذه الحياة، حيث ينظر الطفل إلى الأب بإعتباره السور الذي يمنع دخول المتطفلين الى عالمه، والقناة التي من خلالها تتحقق كل رغباته وميوله.

ولذا فإن هذه المرحلة حسب علماء الإجتماع تعتبر من أهم المراحل في بناء شخصية الإنسان، حيث يعتبر الطفل فيها كالأرض الخصبة التي ينمو فيها كل ما يبذر، وهكذا جاءت النصوص الشرعية التي تعزز هذه الحقيقة.

أرض خالية..

ورد في كتاب بحار الأنوار، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه أوصى ولده الحسن (عليه السلام) فقال : \إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبّك\.

ولذا، فربما إعتقدنا خطأً أن ما يتوجب علينا فعله هو أن يكون الطفل قد توفرت له كل ظروف الراحة والرخاء على مستوى المأكل والملبس والمشرب، مع إغفال الجانب الروحي والنفسي، وهذا التصرف نابع من التفريط، حيث أن الأمور المذكورة وإن كانت مطلوبة، إلا إنه ينبغي حفظ التوازن بينها وبين الجانب النفسي للطفل، (لا إفراط ولا تفريط).

إذاً، ماذا نزرع في نفوس الأطفال؟

تذكر الروايات الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) أن أول ما يستقيه الطفل من عائلته لابد أن يكون الأدب والأخلاق، حيث أنها الشيء الذي يمكنه البقاء بعد زوال كل ما هو قابل للزوال.

فعن الصادق (عليه السلام) \إنَّ خير ما ورّث الآباء لأبنائهم الأدب لا المال، فإنّ المال يذهب والأدب يبقى\.

وفي كتاب غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: \خير ما ورّث الآباءُ الأبناء الأدبَ\.

ما يجدر ذكره هنا، أن أحد العلماء الكبار المعاصرين قد أفنى أكثر عمره في الدرس والتدريس والتأليف حتى بلغ مجموع ما قضاه في هذا المجال أكثر من ثمانية عقود، كان لدى هذا العالم 6 بنات وولدان، وكانوا بأجمعهم متزوجين، وكانت بناته متزوجات من علماء كبار بعضهم كان من طلبة أبيهن، وكان ذلك العالم (الأب) يتصل بهن طالباً منهن زيارته، وفي إحدى المرات قمن بزيارته لكن من دون أبنائهن، ولما حطت رحالهن في بيته وإذا به يبصر بناته من دون أطفالهن، فاستغرب هذا التصرف مستفهماً منهن السبب، فتعللن بأن طبيعة الطفل تميل الى اللهو واللعب والضجيج وهذا ما لايتلاءم مع صحته وراحته، فأمر الأب بناته الست بالرجوع الى بيوتهن وجلب جميع أبنائهن، وبعد رجوعهن الى بيت الأب بصحبة الأطفال، استبشر بأسباطه وانفرجت أساريره فرحاً، ثم إلتفت الى بناته قائلاً:

\اعلمن يا بناتي لو أن شخصاً معيناً قد ربى طفله وفق الموازين الشرعية حتى صار ذلك الطفل إنساناً سوياً ملتزماً بالشريعة، ثم طلب مني أن أبادله ثواب ما قام به من عمل مقابل كل ما عملته في حياتي لقبلت ذلك\.

وهذا التصرف ليس مستغرباً أبداً،  فقد جعل الله تعالى جزاءً عظيماً لهذه التنشأة الصالحة، فاعتبره إحياءً لجميع الناس، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) المائدة 32.