"الشفاعة".. هل يكفي أن تكون شيعياً لتنجو من العذاب يوم القيامة؟

​كثيرة هي المفاهيم القرآنية التي ما تزال غامضة في أذهان الكثيرين، وقد يشكل البعض منها مفترق طريق في حياة الإنسان، فكل فرد منّا يكون سلوكه خاضعاً لثقافته والمراد منها تلك المعرفة الأساسية والأصلية التي يبني الإنسان سلوكه عليها. فالفرد المؤمن بالمادية ترى سلوكه يبتني على المادية المحضة، فلا يؤمن بالمعاني الأخلاقية التي ليس لها رصيد مادي.

ومن المفاهيم المؤثرة في السلوك هي "الشفاعة" فالبعض منّا يتصور أن مجرد ايمانه بالإمامة وكونه شيعياً يكفي في نجاته من العذاب، وإن فعل ما فعل، لذا صار لهذا المفهوم تأثير واضح على فعل الكثيرين تسبب بالاستهانة بالذنوب والاتكال على الشفاعة، كما أن تياراً آخراً من غير الشيعة أنكر هذه الحقيقة القرآنية وشدد على الناس حتى أن بعض اتباعهم يصيبه اليأس من ذنوبه فيزداد إصرارا على الذنب ظناً منه أن لا منجى ولا مفر من العذاب.

وكلتا الطائفتين لم يصيبا شيئاً من الحق في المسألة وهم بذلك على طرفي الأفراط والتفريط. من هنا نحاول بيان هذا المفهوم على شكل مقالات متفرقة متناولين كل مسألة منه على حدة، علماً إن أصل البحث كان مجموعة حلقات متسلسلة طرحتها في إذاعة الروضة الحسينية المقدسة، من هنا أيضاً ينبغي التنبيه على ضرورة استكمال الأبحاث جميعاً للتكون صورة كاملة لهذا المفهوم القرآني وهو "الشفاعة".

الكل يحاسب يوم القيامة

قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنْ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)[1]، فبين سبحانه أن كل نفس مرهونة يوم القيامة بما كسبت من الذنوب، مأخوذة بما أسلفت من الخطايا إلا "أصحاب اليمين" فقد فكوا من الرهن وأطلقوا واستقروا في الجنان، ويؤيده قوله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا)، ثم ذكر أن هؤلاء الذين دخلوا الجنة بالشفاعة غير محجوبين عن المجرمين الذين هم مرهونون بأعمالهم، مأخوذ عليهم في سقر، يتساءلون عنهم سلوكهم في النار، و هم يجيبون بالإشارة إلى عدة صفات ساقتهم إلى النار، فرع على هذه الصفات بأنه لم ينفعهم لذلك شفاعة الشافعين.

وبما ان السؤال من اصحاب اليمين لأصحاب الشمال عن سبب دخولهم النار قد يبدو غريباً لأن من الواضح لكل أحد إن الله تعالى لا يدخل النار الا المجرمين العاصين فلابد أن يكون سؤالهم عن سبب آخر، ومن خلال التعليل الذي ساقه أصحاب الشمال بأنهم لم ينالوا "الشفاعة" بسبب هذه الأعمال الأربعة، فيعلم من هذا السياق أن سؤال أصحاب اليمين كان عن سبب عدم شمولهم لشفاعة الشافعين، وبعبارة أخرى إن استغراب واستفهام أصحاب اليمين لم يكن ناشئاً من كون هؤلاء عاصين بل لماذا لم تنالكم شفاعة الشافعين، وهذا يعني أنهم كانوا أيضاً أي اصحاب اليمين كان الكثير منهم عاصين إلا ان الشفاعة شملتهم وتخصلوا من رهن الذنوب فلذا سألوا

لماذا لم تنلكم الشفاعة؟

أصحاب الشمال، فمع شمول وسعة شفاعة الشافعين لماذا لم تنلكم الشفاعة؟ أجابوا بأن هناك موانع وهي الأعمال الأربعة التي وردت في سورة المدثر: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ).

 إن التلبس بهذه الصفات الأربعة، وهي ترك الصلاة لله وترك الإنفاق في سبيل الله والخوض وتكذيب يوم الدين ينهدم أركان الدين، وبالتلبس بها تقوم قاعدته على ساق فإن الدين هو الاقتداء بالهداة الطاهرين بالإعراض عن الإخلاد إلى الأرض والإقبال إلى يوم لقاء الله، وهذان هما ترك الخوض وتصديق يوم الدين ولازم هذين عملاً هو التوجه إلى الله بالعبودية، والسعي في رفع حوائج جامعة الحياة وهذان هما الصلاة والإنفاق في سبيل الله.

[ذات صلة]

 إن الدين يتقوم بحسب جهتي العلم و العمل بهذه الخصال الأربع، و تستلزم بقية الأركان كالتوحيد و النبوة استلزاما هذا الأمر، وبعبارة أخرى تمثل هذه الذنوب الأربعة جوهر الدين فإثنان منها يخصان العقيدة فالأول هو الخوض مع الخائضين وتركه يستلزم التوحيد، والثاني التكذيب بيوم الدين، وهو إنكار المعاد وهما ذنبان يرجعان الى الاعتقاد كما هو واضح، وأما الذنبان الراجعان الى العمل فهما ترك الصلاة ومساعدة المحتاجين، وينبغي التنبيه إلى أن المراد منهما أعم من الصلاة والزكاة المعروفتان بدليل إن هذه الآيات من سورة المدثر وقد نزلت في مكة في بداية بعثته صلوات الله عليه وعلى آله ولم تشرع الصلاة والزكاة بعد فقد شرعت الأولى في سنة واحد بعد الهجرة والثانية بعد عام الوفود في آية (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم)، فليس المراد منهما الصلاة والزكاة المعروفتان.

ما هو المراد إذاً؟

والملاحظ أن القرآن الكريم أغمض هذه المعاني وجعلها مرددة بين مجموعة كبيرة من الذنوب وقصده من ذلك واضح وهو إخفاء هذه الموانع بين الذنوب ليشعر المكلف بالخوف من جميعها، فلعل بعضها يصدق عليه أنه ترك للصلاة أو ترك لإطعام المسكين أو خوض مع الخائضين او عدم إيمان بيوم الدين، فمثلاً ورد في بعض الروايات أن معنى الصلاة او المصلي هو اللاحق للإمام عليه السلام كما في حديث الصادق في قوله تعالى : (لَم نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ) قال : "عنى بها: لم نكن من أتباع الأئمّة الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم : (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) أما ترى الناس يسمّون الذي يلي السابق في الحلبة مُصَلِّي» . والمُصَلِّي: هو الذي يحاذي رأسُه صَلَوَي السّابق، والصَّلَوَان: عظمان نابتان عن يمين الذَّنَب وشماله . وقال الرّاغب في مفرداته : لَم نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ أي من أتباع النبيّين .

ذنوب تحرمك من الشفاعة

وعليه فلعل ذنب من الذنوب يصدق عليه عدم اتباع فيحرم الإنسان من الشفاعة، وهكذا فتعمية الذنوب القصد منه ـ والله العالم ـ جعل الإنسان خائفاً من جميع الذنوب كما أخفى الله تبارك وتعالى ليلة القدر وأخفى وليه بين عباده.

ومن إشارات العلامة الطباطبائي، صاحب تفسير الميزان، في هذا الصدد أنه قال: "تعيين المشفوع لهم يوم القيامة لا يلائم التربية الدينية كل الملاءمة إلا أن يعرفوا بما لا يخلو عن شوب وإبهام  على ذلك جرى بيان القرآن".

 

[1] المدثر: 38 ـ 48.