شهر الله وخارطة تنمية الروح

تقبل علينا الأشهر الثلاثة: رجب، وشعبان، وشهر رمضان، وهي شهور التزوُّد بالتقوى والدعاء ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ ]1[، وهذه فرصة ثمينة لمن يريد التزوّد إلى الله في هذه الأشهر المباركة، فكلَّما ازداد خير الأعمال فإنَّ لها أثراً على ميزانه، وفي قبره، وفي حشره ونشره. لذلك فإنَّ العاقل الحصيف هو من يبادر إلى استغلال هذه الأشهر الثلاثة في التزود بالعبادة.

وهنا مظهران نركز عليهما في التزود بالعبادة:

المظهر الأول: تنمية العلاقة الرُّوحيَّة

ويؤكدها ما ورد عن النَّبيِّ: ”ألا وإنَّ رجب شهر الله، وشعبان شهري، وشهر رمضان شهر أمتي، ألا ومن صام من رجب يوماً إيماناً واحتساباً استوجب رضوان الله الأكبر“ [2] .

ففي هذا الحديث خارطة رسمها لنا رسول الله ، إنَّنا نبدأ بشهر الله - وهو شهر رجب -، ثم بشهر رسول الله ، ثم بشهر أمته، ولكلِّ شهرٍ مدلولٌ، فإنَّ شهر الله يقتضي منّا أن نتعلق بالعبادة بمعناها الأخصّ، وهي التزوُّد بالنَّافلة، بالدعاء، بالتسبيح إلى الله - عزَّ وجلَّ -، وشهر محمد  يقتضي أن نتزوَّد فيه بما يناسب هذه الإضافة، وهي التوسُّل بالنَّبيِّ وبأهل بيته، والدخول في أجوائهم، من ترويج فضائلهم، ومدائحهم، وأمورهم، وشهر أمته يقتضي التزوَّد فيه بما يناسب هذه الإضافة أيضاً، من الإنفاق على الفقراء، تفقُّد المحتاجين، التواصل مع الإخوان ومساعدتهم، فلكلِّ إضافةٍ مدلولٌ يتناسب معها.

المظهر الثاني: تنويع العبادة

إنَّ هذا الشهر الشريف شهرٌ ينصهر فيه الإنسان بمختلف أنواع العبادة، فإنَّنا إذا قمنا باستقراء الأعمال التي وردت في هذا الشهر الشريف، سواءً كانت أعمالاً عامةً، أو كانت أعمالاً خاصةً ببعض الأيام، أو ببعض الليالي؛ نرى أنَّ أغلب الأعمال تشتمل على فنون من العبادة، وليس فنّاً واحداً من العبادة، مما يرشد إلى أن التزوَّد المطلوب في هذا الشهر الشريف أن نجمع بين عدة أنواع من العبادة.

فإنَّ المؤمن العاقل الذي يفكر في قبره، وفي آخرته، وفي مسيرته الطويلة، وحسب ما ورد: ”العقل ما عبد به الرحمن، واكتسب به الجنان“ [3] ؛ يحاول أن يجمع بين الأمور، بأن لا يترك أيَّ عملٍ من القربات الثلاث: نافلة، تسبيح، وقراءة القرآن، فالمؤمن الحصيف يجمع بين هذه الأنواع الثلاثة، وأقلَّها قراءة خمسين آية، وإنجاز نافلة من النوافل الرَّاتبة، وتسبيح البتول الزهراء «صلوات الله عليها» في جميع الصَّلوات، فإنَّه أفضل التعقيبات، وإن كان قد ورد في أعمال هذا الشهر؛ أنَّ من لم يستطع الصوم فليقل مائة مرة: ”سبحان الإله الجليل، سبحان من لا ينبغي التسبيح إلاّ له، سبحان الأعزٍّ الأكرم، سبحان من لبس العز وهو له أهل“ [4] ، إلا أنَّ تسبيح الزهراء  أفضل التعقيبات.

وقد ورد في أدعية شهر رجب: «اللهم إنِّي أسألك صبر الشاكرين لك، وعمل الخائفين منك، ويقين العابدين لك» [5] ، هذا هو قوام التزوُّد، فإذا كنَّا نريد أن نتزوَّد في شهر رجب؛ فإنَّ قوام التزود هو: صبر الشاكرين، عمل الخائفين، يقين العابدين.

«صبر الشاكرين» وليس أيَّ صبرٍ، بل صبرٌ مُمْتزِجٌ بالشكر، فالصبر على نافلة الليل، والصَّوم لا بدافع الخوف من عذاب الله، ولا بدافع الحصول على شيءٍ من الرِّزق، أو التوفيقات الدُّنيويَّة، وإنَّما الباعث المؤثِّر هو الشكر، فيتحول الصبر إلى مظهرٍ من مظاهر شكر النعم. قال تعالى: ﴿َاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾[6] ، وقال: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾[7] .

«وعمل الخائفين منك» ومفاد هذه الفقرة؛ أنَّ هناك فرقاً بين الخوف من الذنب والعقوبة، والخوف من الله، فالخوف من العقوبة خوفٌ ذاتيٌّ إنسانيٌّ، بينما الخوف من الله هو إجلالُهُ، والرَّهبةُ منه عند تصور عظمته، فقد كان الحسن الزكي إذا توضأ للصلاة اصفَرَّ لونُه، وارتعدت فرائصه، وقال: أتدرون أنني أقف بين يدي من؟ إنَّني أقف بين يدي جبار الجبابرة، وملك الملوك.

[ذات صلة]

وهذا يؤكد لنا أنَّ العمل المقترن بخوف الله؛ هو العمل الصادر بدافع الخشوع، لا بدافع إنجاز الوظيفة الشرعيَّة، ولا بدافع التأثُّر بالموعظة، ولا بدافع تخفيف العقوبة الأخرويَّة، وإنَّما هو بدافع الخوف من ذاته تعالى، وهو الخوف الممتزج برهبته، وإجلاله، والإلتفات لعظمته.

«وعمل الخائفين منك» ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ﴾[8].

«ويقين العابدين لك» ربَّنا هبْ لنا السير على خُطى العابدين، أصحاب اليقين الذين يقولون: «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنَّتك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك» [9] ، فعندما يغمر الإنسان الحياء من ربِّه - عزَّ وجلَّ - وسعة مننه، فيقول: «أفلا أكون عبداً شكوراً!» [10] . وعندما يمتلئ القلب خوفاً من الله، خوف الرَّهبة، خوف الإجلال، فيقول: أفلا يستحقُّ هذا الموجود الأتمُّ العبادة مني، والخضوع والتذلل!

عندما تكون هذه النوايا هي الدوافع؛ فسوف تتحقق العناصر الثلاثة: صبر الشّاكرين، عمل الخائفين، يقين العابدين.

ربَّنا وفقنا للطاعة، والبُعد عن المعصية، والتزوَّد من خير شهرك شهر الرَّحمة والعطاء، على نهج أئمة الهُدى «صلوات الله عليهم أجمعين».

-----------------

[1]  سورة البقرة، آية 197.

[2]  فضائل الأشهر الثلاثة، للشيخ الصدوق، ص24.

[3]  هداية الأمة إلى أحكام الأئمة، للحر العاملي، ج1، ص4.

[4]  مصباح المتهجد، للشيخ الطوسي، ص817.

[5]  مصباح المتهجد، للشيخ الطوسي، ص802.

[6]  سورة البقرة، آية 152.

[7]  سورة إبراهيم، آية 7.

[8]  سورة النَّازعات، آية 40 - 41.

[9]  روضة المتقين، للمجلسي الأول، ج2، ص41.

[10]  الأمالي، للشيخ الطوسي، ص637.